في الذكرى الأولى لوفاة العم عبد العزيز سعود الفليج (1929- 2024)

شخصيات
Typography
  • Smaller Small Medium Big Bigger
  • Default Helvetica Segoe Georgia Times

من تجار الكويت الذين عاشوا في كراتشي

بقلم: د. عباس يوسف الحداد
التقيتُ به مرتين، وفي المرتين أفدتُ منه كثيرًا؛ فهو مكنز تاريخي لم يُستفَد منه. كان اللقاء به في مكتبه بالشويخ، وكنتُ في صحبة نسيبه الأخ الغالي وضاح خالد الزيد، حين دخلنا عليه المكتب وجدناه جالسًا خلف مكتبه مُرتديًا دشداشته ذات (الغولة)، وعلى رأسه غترة بيضاء يمسكها عقال أبو كركوشة، وكانت له لبسة للعقال مميزة، حيث كان يفتح أحد مطبقيه – كما هو في الصورة -ويجلس خلف مكتبه في فتوة ونضارة وحيوية ابن الأربعين، كان كريمًا في اللقاء، حسن الطوية، دمث الخُلق، محبًّا للحياة، مُتسامحًا ومتصالحًا معها، لا تفارق الابتسامة وجهه، تلك الابتسامة الدالة على الرضا وطيبة القلب. 
عاش في مدينة كراتشي الهندية في الفترة (1943 – 1956) أي ثلاثة عشر عامًا في كنف والده الذي كان يقيم هناك لرعاية تجارته، وهكذا كان يفعل بعض تجار الكويت الذين أقاموا في بومباي أو كراتشي لمباشرة أعمالهم التجارية هناك، حيث كانوا يجلبون التمور من البصرة إلى الهند، ويأخذون الأرز والحنطة والبهارات من الهند إلى الكويت، كما كانوا يأتون بالأخشاب من كالكيوت إلى الكويت، وقد ذكر لي العم عبد العزيز -رحمه الله -أن يوسف الصقر -رحمه الله – كان لديه في كالكيوت مضيف فيه ما بين 30 إلى 40 غرفة لاستضافة أهل الكويت، كان يدخل الرجل منهم فيه يأكل وينام دون أن يُسأل عن شيء.
وقد أقام العم عبد العزيز -رحمه الله -في كراتشي ليعمل في مكتب والده -وكان عمره حينها ستة عشر عامًا -وهناك تعلَّم اللغة الأردية وكأنه أحد أبنائها، وكان هذا السبب وراء لقائي الأول به؛ إذ كنتُ بصدد الكتابة عن مؤلَّف صغير يختص بحساب اللؤلؤ، وضعه رجل من أهل الكويت يدعى ناصر بن غانم، فلم أهتدِ للشخص مَن هو، كما كنتُ أجهل الكثير من المصطلحات الهندية الخاصة بالأوزان والمنثورة في ثنايا الكتاب، وحين التقيته علمتُ أن ناصر بن غانم هو خاله، وقد فكَّ لي جميع طلاسم الكتاب؛ لأنها كانت باللغة الأوردية التي يجيدها ويعرف مصطلحاتها جيدًا.
وبعد أن غادر عبد العزيز كراتشي إلى الكويت، توجَّه بعد ذلك إلى هونغ كونغ وأقام فيها عامًا للقيام بأعمال تخص تجارتهم، ثم أقام بعدها في اليابان مدة ثلاثة أشهر ثم قفل راجعًا مرة أخرى إلى الكويت، ومن بعدها صار يتردد على لندن بين الحين والآخر، حيث كانت لديه بعض الأعمال التجارية هناك.
وقد دارت بيني وبينه - رحمه الله – أحاديث شيقة عن ذكرياته خلال مسيرته الحافلة، إذ عاصر وقائع مصيرية جرت خلال رحلاته التجارية -خاصة رحلاته للهند - حيث كان شاهدًا خلال عام 1947 على لحظة انفصال الهند عن باكستان. 
وحين سألته عن التجار الكويتيين المقيمين في كراتشي آنذاك ذكر لي منهم: محمد المرزوق، عبد الرحمن الشاهين، فهد المرزوق، مرزوق عبد الوهاب المرزوق وغيرهم. أما في بومباي فكان عبد اللطيف العبد الرزاق، عميد التُّجار الكويتيين هناك. وأخبرني أن القنصلية البريطانية آنذاك كانت تمنح تجار الكويت ورقة فيها صورة شخصية هي بمنزلة جواز سفر لحاملها تثبت هويتهم. 
وقد حكى لي عن قصة قديمة وقعت في الهند لرجل كويتي كان لديه ذهب باعه وأخذ مقابله مالاً، فلحق به البوليس للإمساك به فرأى أحد الهندوس فوضع الأموال لديه أمانة ثم ولَّـى هاربًا إلى الكويت ثم حضرته المنية بعد خمسة أعوام من تلك الواقعة، وبينما هو على فراش الموت أخبر ورثته أن هناك في المنطقة الفلانية بالهند شخص يدعى كذا توجد لديه أمانة (أموال) تركها لديه. وبعد فترة من وفاة الرجل ذهب الورثة إلى المنطقة التي ذكرها والدهم وعرَّفوا أنفسهم للرجل الهندوسي، فقال لهم: «لقد ترك لدي أمانة ومن زمن طويل وأنا أبحث عنه لردها إليه»، وفتح خزانة الأموال وأعطاهم الأمانة التي أودعها الرجل لديه من زمن.
هذه الحكاية وغيرها من الحكايات المتداولة بين أهل الكويت قديمًا وثَّق بعضًا منها الشيخ عبد الله النوري (1905 -1981) في كتابه "حكايات من الكويت"، والتي تُبيِّن أمانة الرجال في التعاملات التجارية بين الكويتيين وغيرهم.
جرَّني الحديث معه حينها عن الصدق والأمانة في التعامل فذكر لي -رحمه الله -أنهم قديمًا لم يكونوا يفرّقون في تعاملاتهم التجارية بين الناس على حسب أديانهم ومذاهبهم، بل أكد لي قائلاً: «إن جُلَّ تعاملاتنا المالية كانت مع غير المسلمين، كما كنا نتعامل مع اليهود من أصول عراقية والمقيمين في الهند قبل نكبة 1948». 
وروى لي حادثة جرت معه تُجسِّد هذه العلاقات الإنسانية الرفيعة التي لا تدع لاختلاف الدين أو المذهب سبيلاً للتحكم فيها. يقول رحمه الله: «كان هناك شخص يدعى عبد الله غلوم (بلوشي) يعمل فداويًّا عند الشيخ عبد الله الجابر، وكانت لدينا أرض مشتركة في منطقة السرة بجوار السفارة اليابانية آنذاك، وكان عبد الله غلوم أُمّياً لا يعرف القراءة والكتابة، وكنت معه نشتري الأراضي ونبيعها حتى وافته المنية، وكان لديه أبناء منهم المهندس والمحامي وغيرهم. كان مجلس العزاء في حسينية بمنطقة الرميثية فذهبتُ إلى العزاء وأخبرتُ أبناءه أن والدهم كان على شراكة معي في أرض بمنطقة السرة، وطلبتُ منهم بعد انتهاء العزاء أن يأتوني بالمكتب، وبالفعل جاؤوا المكتب وأطلعتهم على وثيقة الأرض والشراكة التي بيني وبين والدهم، وطلبتُ منهم أن يقوموا ببيع الأرض بمعرفتهم حتى يأخذوا نصيبهم. فقال محمد بن عبد الله غلوم وكان محاميًا: طالما والدنا وثق بك فنحن أيضًا نثق بك، قُمْ أنت ببيع الأرض وادفع إلينا بنصيبنا، وكانت القيمة السوقية للأرض حينها ستمائة ألف دينار كويتي».
ثم أردف قائلاً: «كانت الأمانة سابقًا تحكم العلاقات التجارية بيننا؛ إذ كنا نعطي الذهب لأحدهم ولا نأخذ منه إيصالاً بذلك؛ لأن الأمانة والصدق هما العملة السائدة في التعامل بيننا. وإذا خان الأمانة شخص من أهل الكويت فهو بذلك أنهى التعامل مع جميع التجار؛ فالعُرف يُقصيه من دائرة التعامل معه ويخرجه من بوابة المعاملات التجارية، وإذا دخل على أناسٍ في مجلس وألقى التحية لا يُردُّ عليه». ثم عقَّب بقوله: «هناك شخص خان الأمانة فغادر الكويت وأقام في مدينة الفاو من 20-30 عامًا حتى مات ودُفن هناك».
قصة البحارة الكويتيين مع الهنود بمدينة (بور بندر) في الهند
بور بندر مدينة هندية تقع على ساحل ولاية غوجارات، اشتهرت بكونها مسقط رأس المهاتما غاندي وسداما صديق كريشنا. هذه المدينة يسميها الهنود (بور بندر)، بينما الكويتيون يطلقون عليها (خور ميان).
 وقد صادف ذات مرة أن مجموعة من البحارة الكويتيين بعد أن صلوا العصر نزلوا من سطح السفينة الراسية في الميناء إلى سوق المدينة، وإذا بجنازة رجل من الهندوس تمرُّ بالسوق يحملها الرجال على الأكتاف ويسلكون طريقهم لحرقها على عادتهم، وفي مثل هذه الحالة جرت العادة أن يقف الناس حتى تمر الجنازة، لكن البحارة الكويتيين لم يتوقفوا وتابعوا المسير لجهلهم بعادات القوم وتقاليدهم، وقد أثار هذا الفعل غضب الهنود فتلاسنوا بالكلام معهم حتى تطور الأمر ووصل إلى التشابك بالأيدي، ولم يكن الكويتيون يحملون شيئًا معهم يدافعون به عن أنفسهم، بينما الهنود كانوا لديهم ما يحملونه ويضربون به فيوجعون البحارة الكويتيين، فعاد البحارة إلى سفنهم وجاؤوا بالحطب الكبير ونزلوا السوق وأخذوا يضربون الهنود ضربًا موجعًا حتى إنهم تركوا الجنازة على الأرض وولوا هاربين، وأغلقت السوق كلها في ذلك اليوم.
وكان موجود في تلك الفترة مجموعة من تجار الكويت: عبد العزيز الصقر، إبراهيم النصر الله، محمد السعد المنيفي، ومجموعة أخرى من التجار، فذهب أولئك التجار لحاكم (بور بند) الهندوسي ومعهم البحارة الكويتيون وهم يرفعون علم الكويت، ويضربون على الطبول والطيران (جمع طار آلة عزف إيقاعية)، يغنون ويزفنون، فطرب الحاكم لهم وأبدى استحسانه لما يفعلون. وتبين أن هؤلاء النفر من الهندوس كانوا مشاغبين ويؤذون الحاكم، ولم يكن يستطيع السيطرة عليهم وردعهم أو كسر شوكتهم، فكان ما فعله البحارة الكويتيون بمنزلة انتصار عليهم وكسر لهيبتهم وإذلال لقوتهم، لذا طلب الحاكم من عبد العزيز الصقر أن يذهب بهم إلى المطعم اليتيم في المدينة ويقدِّم لهم طعامًا على حسابه إكرامًا واحتفاء بهم وبما صنعوا، ولم يكن حينها في بور بندر سوى ذلك المطعم الذي يقدِّم الطعام لطالبيه، وكان يشترط عليه ألا يذبح بقرًا، بل يقدم لحم غنمٍ فقط. بل أبدى ذلك الحاكم رغبته في إقامة هؤلاء البحارة الكويتيين على الدوام، فقال لعبد العزيز الصقر: «قُل لهم يبقون عندنا في بور بندر».
ويذكر العم عبد العزيز الفليج - رحمه الله - أن البحارة الكويتيين الذين اشتبكوا مع الهنود كان عددهم يتراوح بين 40 و 50 رجلاً، وقد شهد هذه الحادثة أكثر من عشرين (بومًا) كويتيًّا، وكان في كل (بوم) ما لا يقل عن 25 بحارًا كويتيًّا. كلهم شهدوا هذه الواقعة وما حدث من اشتباك بين الهندوس والبحارة الكويتيين، فضلاً عمن كان موجودًا من بحارة أهل عُمان. ويروي أن سوق (بور بندر) ظل مُغلقًا لمدة يومين حتى جاء عبد العزيز الصقر وطلب من البحارة الكويتيين أن يخلوا سبيل الذين اشتبكوا معهم من الهندوس؛ ليفتحوا محلاتهم وتعود الحياة لطبيعتها. 
هذا غيض من فيض ذاكرة ذلك الرجل - رحمه الله - الذي يحمل الكثير من تاريخ وأحداث لم يلتفت أحد لتدوينها عنه وحفظها، فقد خلا الزمان من أمثال هذا الرجل، خاصة أنه كان واعيًا وداريًا وعارفًا ثبتًا لما يقول ويروي. 
رحم الله العم عبد العزيز سعود الفليج، وغفر له وأسكنه واسع جناته، فهو رجل من رجال الكويت البررة.